-->

قسوة القلوب

قسوة القلب

قسوة القلوب

الإنسان - ويمكن ان أقول كل إنسان-  دائما ما يتذبذب بين إيمان وصفاء، وبين فتور وتبلد وجفاء وقسوة، فتراه في الحالة الأولى قائما ساعيا مثابرا صابرا على العمل الصالح والسعي للآخرة، وفي الحالة الأخرى تراه متبلدا، فاترا عن العمل، في حالة من البعد والشتات والتيه، مكبل مقيد يستوعر خطواته.

حتى إن الإنسان في بعض حالات الفتور والقسوة قد يبلغ مبلغا ذليل في موضعه ليكون أهون وأقل من الحجارة في ما يعود منها من نفع وخير، وهو أشد منها قسوة وصلابة في البعد، يا الله! تخيل كيف يكون حال قلبك وهو أشد قسوة من الصخور، فقد عذر الله الحجارة فمنها ما يأتي بالماء بعد انشقاقه، ومنها ما يسقط من خشية الله، أما ذلك الإنسان الشقي الذي قسى قلبه ما عذره وما الرجاء منه!؟

عواقب قسوة القلوب

إن من أشد عواقب قسوة القلب، هو أن يفقد الإنسان القدرة على الاتصال بالله سبحانه وتعالى ومناجاته والتشرف بالتذلل والخضوع والانبطاح بين يديه، بل ومن العجيب أن الله يعرض الناس لكوارث كونية ويقدرها عليهم حتى يتضرعوا ويلينوا، فيفلح الناس إلا طائفة منهم قد قست قلوبهم فما تضرعوا وما اتعظوا وما تأثروا من النفع المراد من الله لعباده بما يرسل عليهم من ابتلاءات يقدر الله فيها الجوع والخوف والفقر على الناس علهم ينيبوا ويتضرعوا ويعودا لربهم ويتذللوا له ويمرغون وجوهم في التراب، فما يكون من قسوة القلب إلا أن تكبل الإنسان عن الاتعاظ بكل تلك الرسائل المحملة من رب العزة لعباده، فيا لشؤم ذلك القلب القاسي الذي لم يتعظ بما يقدر الله دونا عن أن يضاد أمر الله، فيفقد بذلك الصعود لتلك المنازل العليا ويحرم الإنسان من لذة المناجاة والاتصال بالله والتمرغ في التراب بين يديه وهي والله لمن أسعد اللحظات لمن عاش ذلك بقلبه.

بل ومن أسوء ما قد يخفى على المرء هو أنه لا يعلم أن الحال لا يتوقف على الحرمان من تلك المقامات الرفيعة من الاتصال برب العزة ومناجاته، بل إن من قسى قلبه قصر في طاعة الله وزاد في عصيانه تراه ساعيا في التماس النصوص والآيات التي تتوافق مع هواه، وتراه يأخذ من الأقوال المختلف فيها ما يوافق مراده وحسب، وفي المقابل يلوي أعناق رماح النصوص الأخرى ويفاديها حتى لا تصيبه، وتراه بعدما قسى قلبه يحرف الكلم عن مواضعه، وهنا تتجلى حكمة الله البديعة في جعل بعض النصوص متشابهة، فتراهم مكبلون بأنفسهم متشبثون في تلك المواضيع لا يتركون مواضيع الاشتباه، وتطيش عقولهم أمام تلك النصوص يتكئون عليها سندا لتقصيرهم وعصيانهم، فيجعل ما يلقي الشيطان فتنة لمن في قلبه مرض ولمن قسا قلبه.

ويزيد من السوء أن تعلم أن قسوة القلب من الأسباب العظمى في اقتراف المعاصي، وهي كذلك من أشد عقوبات وتوابع المعاصي، فهي سبب للمعاصي وناتج عنها كعقوبة من الله على تلك المعاصي بتسليط قسوة القلب على قلوبهم: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم (وجعلنا قلوبهم قاسية)، فترى من ذلك أن من أشد عواقب قسوة القلب أنها متبوعة بالذنوب، ومتبوعة عن الذنوب، وأن الله سبحانه وتعالى قد يعاقب على الذنب بالذنب، وعلى البعد بالبعد، وعلى الزيغ بالزيغ، قال تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وقال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.

كيف تحصل قسوة القلوب؟

نعلم جميعا أن قسوة القلب هي أحد أصعب عواقب كثرة الذنوب والمعاصي، إلا أن هنالك سبب أخر يرتبط ارتباطا وثيقا بحدوث قسوة القلب، وهو البعد عن ذكر الله، لم يذكر الله لنا من أمور الأمم السابقة للتسلي والمتعة، بل ينبهنا لما اقترفوا حتى نجتنبه، وهو سبحانه وتعالى القائل: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم. فهؤلاء الذين طال بعدهم عن كتاب الله وعن ذكر الله قد قست قلوبهم نتاجا لما فعلوه، وهو سبحانه وتعالى القائل: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله. قال ابن جرير: أي: فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت.

باختصار..

  • بعض القلوب بلغت القسوة فيها مبلغا جعلها أشد قسوة من الحجارة.
  • وأن قسوة القلب هي سبب للمعاصي وهي من أصعب عواقب المعاصي.
  • وتحرم تلك القسوة العبد من أن يتلذذ بمقامات التضرع واللجوء لرب العزة.
  • وأن تلك القسوة تجعل القلوب هشة أمام الفتن.
  • وأن من أسباب قسوة القلب الكبرى هو البعد عن ذكر الله، وهو أيضا من أسباب العلاج الكبرى.
  •  والويل كل الويل لمن قسا قلبه.

وكل تلك الأحداث المرعبة تجبرنا على الوقوف الصارم لمواجهة تلك المشكلة، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون قسوة القلب من الأمور العابرة الهينة في حياتنا، من الأمور التي لا نلقي لها بال أو اعتبار يليق بخطرها وأثرها، فواجب علينا أن نستفيق وأن نبحث عن معالجة تلك المشكلة الخطيرة، وأن نصل لحل قبل أن يأتي الموت فجأة وبغتة، فحينها لن يفيد الندم ولن يكون هنالك أي رجوع.

مداوة القلب القاسي

مما لا شك فيه أن أسرع الأدوية وأنفعها في علاج القلب القاسي هو قراءة كلام الله وتدبره وفهم معانيه، وهو أكبر أبوب التأثير في القلب وتليينه، قال تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

وما جاء عن تأثر الأنبياء والصالحين بالقرءان لهو خير دليل على ما له من أثر ونفع في القلوب، قال تعالى: إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن خروا سجدا وبكيا. وقال تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع. فمن تدبر ما كان يعلوا الأنبياء والصالحين ومن تمكن القرءان من التأثير في قلوبهم، علم أنه هو نفسه الحل ولا جدال، وأنه المخرج من كهوف الرين وسلاسل قسوة القلوب.